المادة    
ولكن كان هناك إشكالية في التاريخ: كيف بدأت؟! إذا كانت هذه الشعائر منكرة وهي محرمة؛ إذاً من أين جاءت؟! وكيف بدأت؟!
أما فضل الله فإنه يقول أيضاً في هذه الندوة: لا أعلم تاريخاً متى بدأ ذلك.
  1. مراحل تطور الطقوس الشيعية في يوم عاشوراء

    لكن حقيقة أنا نجد عالماً شيعياً آخر فصل تفصيلاً علمياً في هذه المسألة, وهو محمد مهدي شمس الدين في كتاب سماه: ثورة الحسين في الوجدان الشعبي .
    لاحظ أيضاً أنه جعلها في الوجدان الشعبي, معنى: ليس في الأدلة الشرعية؛ بل ذكر هو بنفسه أن الأدلة الشرعية تحرم النياحة! وقال: لماذا استثنيت هذه المسألة؟ فبدأ يذكر أن هذه المآتم الحسينية مرت بعدة مراحل أو عصور, منها: مرحلة النواح العادي والترنم ببعض الأبيات الشعرية, واستمرت هذه عدة قرون -القرون الأولى- ثم بعد ذلك في عصر البويهيين وآخر العصر العباسي الثاني اشتهر نوَّاحات معروفات, وبُدئ بتأليف كتب للنياحة تقرأ وتتلى، لكن في العصر الأخير, والذي يمتد أيضاً عدة قرون من أيام الصفويين إلى الآن انتقل الأمر, فأصبح الأمر طقوساً معلومة محددة ومرسومة الهدف, منها: التمثيل الذي يقام, ومنها: كتب معينة تقرأ من أولها إلى آخرها, ومنها: طرق في عرض وإقامة هذه الطقوس وهذه الشعائر, بمعنى آخر: أنها تطورت تطوراً كبيراً جداً في العصور الأخيرة.
    وذكر محسن الأمين كلمة مهمة؛ وهي أن أصل هذه الشعائر في المرحلة الأخيرة المتطورة هو من أيام الصفويين ؛ بل إن الأمين يقول: إن أول من أنشئوا الحسينيات هم من الإيرانيين والهنود، وكأنه بذلك يفتح الباب فعلاً لأن يتدخل الآن علم الأنتربولوجيا الثقافية والاجتماعية؛ ليقارن وينظر بين هذه القضايا, معنى آخر: هل هناك ما يشهد أن هذه الشعائر أصلها هندي أو أصلها إيراني؟
  2. الزرادشتية وتطور النياحة واللطم في عاشوراء

    هنا أنبه حقيقة إلى مقالة قرأتها بمناسبة عاشوراء السنة الماضية وهي مما قد يثير العجب عند المسلمين, بعد أن من الله تبارك وتعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالإسلام، ومن علينا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهدانا الله تعالى به, وجعل الشرائع الأخرى إما باطلة أو منسوخة.
    نشرت جريدة الحياة في (21/مارس/2004م) تعليقاً على كلمة ذكرتها لـمحمد علي أبطحي؛ وهو مساعد رئيس الجمهورية الإيرانية, يقول: إنه لا يمكن أن نتصور إيران من غير زرادشت ولا أن نتصور زرادشت من غير إيران .
    وهو بذلك يتحدث عن يوم (النيروز) ويقول: إن الشعائر التي تفعل في يوم النيروز والحيطة بالنار والقفز وبعض الأدعية التي تقال ليست شركاً بالله؛ لأن هؤلاء لا يعتقدون أن النار هي الرب كما كان يفعل المجوس ، ما يفعله الناس في إيران لا يعتقدون بهذا العمل أن النار هي الله, ولكن هذه عادة اجتماعية درجوا عليها, ولا يمكن أن نتصور الفصل بين زرادشت وإيران من جهة, أو بين الشعب الإيراني وتقاليده وبين الزرادشتية.
    وهذه كلمة لا شك أن كل مسلم يدرك ماذا ترمي إليه؟! وماذا تدعو إليه؟! وهي تتضمن الإقرار بأن هذه الشعائر بالفعل هي في أصلها من الزرادشتية ، الواقع أن هذا الكلام الذي قاله تشهد به كتب الأنتربولوجيا، ومن ذلك كتاب تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية , وهو كتاب مشهور في الأديان ومقارنتها والأنتربولوجيا الثقافية، ألفه مؤلف مشهور وهو مرسيا إلياد ترجمة عبد الهادي عباس, هذا الكتاب في صفحة (403) يقول: كان هناك عادة أكثر قدماً مميزة لسهوب آسيا الوسطى؛ وهي عرض الأجساد في مكان محدد -يعني: من باب التضحية والتقرب إلى الآلهة بالأجساد وتركها للكلاب والنسور وغير ذلك- يقول: وإن إيراني الشرق كانوا يطبقون المناحات الشعائرية, ويعاقبون أنفسهم بالضرب الذي قد يصل حتى إلى حد الانتحار.
    لكنه يضيف إضافة مهمة فيقول: ولكن الزرادشتية منعت البكاء والمناحات, وأفصحت أنها من اختراع أنقرامينو -يعني: في الكتب المنقولة وفي أكثر من مصدر عن زرادشت نفسه قال: إن المناحات التي تقام ليست مشروعة, وإنما هي من أنقرامينو, وهو معناه الشياطين كما في كتاب المعجم الموسوعي, أنقرامينو يعني: الشياطين هي التي أوحت بذلك.
    ولهذا فصل بعض الباحثين وقال: إن ما قاله زرادشت هو النهي عن هذا؛ لكن ابتدعت المجوسية بدعة في تعاليم الزرادشت ، وقد يكون في الحقيقة من أنبياء الله (( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ ))[فاطر:24], ولا يستغرب هو أو غيره أن الله يرسل أنبياء بالدين الحق التوحيد ثم يحرف، فالمقصود أن هذه معروفة حتى من قبل زرادشت ثم من بعده أنها من الوثنية التي نهى زرادشت بنفسه عنها! إذاً هذه كانت شعيرة معروفة.
  3. انتقال الشعائر الشيعية من الأديان السابقة إلى ما بعد الإسلام في يوم عاشوراء

    وقد يستغرب البعض يقول: كيف تنتقل هذه الشعيرة من الإيرانيين القدماء إلى الإيرانيين بعد الإسلام؟! وكيف تنتقل -كما أشرنا قبل قليل- من عادات آشورية وبابلية وغير ذلك؟!
    العجيب أيها الإخوة والأخوات! أن انتقال العبادات والإضلال بها هذا يستحق منا إلى حلقات أو لقاءات, أنا أشير إشارة فقط إلى كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [أن وداً و سواعاً و يغوث و يعوق و نسراً انتقلت إلى العرب], وذكر كل قبيلة كيف كانت إليها عبادة شيء من هذا؛ أن هذا من قوم نوح استمر إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم, وبأسماء قد تختلف وقد تتفق.
    يعني: عزير يقال: أوزيريس مثلاً, والعزى يقال: أزيزو, موجود في الكتب القديمة مثلاً، و نسر هو نسر في الحضارات القديمة إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا, هناك الشيطان واحد، والإضلال واحد، وهناك ما يمكن أن نسميه الامتزاج الذي يحدث بين الضلالات فتخرج بالناس عن جادة التوحيد.
    نؤكد هذا ببعض الحقائق التاريخية، لدينا كتاب مهم جداً في التاريخ وهو تاريخ سوريا للمؤلف المشهور يوسف الدبس يقول في صفحة (206) مثلاً:
    إن المعبودات حقائقها واحدة، وإن اختلفت الأسماء في النهاية فهي تعبر عن حقيقة واحدة, ويضرب مثالاً في ذلك, فيقول: عشتروت هي من معبودات الحثيين والكنعانيين, يقال: إن عشتروت أو عشتر هي العزى؛ ولكن هذا تحريف لفظي.
    يقول: وابن عشتروت البابلية وعروسه هو تموز أو أدونيس عند الفينيقيين, ويسميه الآراميون في سوريا هداد، وهو في آسيا الصغرى أنيس راعي النجوم... إلى آخر ذلك.
    يعني: قد تتغير الأسماء وقد تتشابه, فمثلاً: عندما كان البابليون يلطمون ويخدشون كانوا يقولون: تموز تموز؛ فأصبح الآن: حيدر حيدر, يعني: وضعت كلمة بدل كلمة؛ لكن الشعيرة واحدة.
    الفينيقيون كانوا يقولون: أدوني أو أدوناي، واليونانيون أضافوا إليها النسبة عندهم فيقولون: أدونيس -اسم الذي تسمى به الشاعر المعروف الحداثي -.
    أدوني كلمة قديمة، وهي من العربية القديمة التي تعني الديان؛ وهو الله تبارك وتعالى! وعند اليهود أدوناي ما تزال معروفة, بمعنى: الله الدوناي؛ فالفينيقيون أخذوا أدوني وأضافوا إليها شعائر اللطم والنياحة, ويلطمون أنفسهم ويخدشون ويقولون: أدوني أدوني.
    هذا الكلام نفسه جاء مؤكداً في التوراة, ففي الكتاب المقدس في أسفار التوراة في سفر الملوك الأول يذكر قصة هي من أمثل القصص في هذا الكتاب, التي تدل فعلاً على أن هناك حقيقة كما بينها الله تبارك وتعالى في كتابه؛ وهي أن كل الأنبياء دعوا إلى توحيد الله تبارك وتعالى, وفي القرآن ما يؤيد ذلك عن إلياس عليه السلام حين قال: (( أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ))[الصافات:125], القصة التي وردت في سفر الملوك هي عبارة عن مناظرة بين الكهنة؛ كهنة بعل الذي هو أدوني أو أدونيس وبين نبي الله تبارك وتعالى إيليا أو إلياس, وكانت المناظرة بحضور الملك، وكيف أن كلاً منهم يدعو إلهه لعله يستجيب. فيقول في الفقرة رقم (28): إنه لما تحداهم النبي بدعاء غير الله تبارك وتعالى أخذوا يصرخون -يعني: دعوا البعل- ولم يستجب لهم أحد، فأخذ يهزأ ويسخر بهم ويقول: ربما يكون إلهكم نائماً, أو قد يكون مشغولاً, أو مسافراً أو كذا -يسخر عليه السلام مما يفعله هؤلاء-.
    ثم قال في السفر: (فأخذوا يصرخون بصوت عظيم، ويهشمون أجسادهم بحسب شعائرهم بالسيوف والرماح حتى سالت دماؤهم). وهذا كان غاية التقرب عند الفينيقيين الذين يعبدون بعلاً، أن يضربوا ويضربوا ويلطموا حتى تسيل الدماء فيقولون: إذا فعلنا ذلك ورأى الإله -هذا المعبود الصنم- الدماء فإنه يستجيب لنا ومع ذلك لم يستجب لهم على الإطلاق.
    فهذا يؤكد ما جاء في التاريخ, وذكره علماء الأنتربولوجيا أيضاً، والمؤرخون في الكتاب المقدس, ويؤيده ما جاء في القرآن من عبادة بعل, وأن عبادته كانت بالتقرب إليه بذبح الأبناء, وهذا جاء في أسفار كثيرة جداً من التوراة, وأنكر أنبياء كثيرون عليهم ذلك, منهم على سبيل المثال: النبي أرمياء، فقد نعى عليهم ذلك، يقول: كيف تذبحون أبناءكم لـبعل ولآلهة الفينيقيين!
    ومن ذلك أيضاً: شعائر الدعاء؛ وهي الضرب بالحديد والرماح والسيوف حتى تسيل الدماء.
    فيمكن أن نستشف من هذا حقيقة مهمة جداً ذكرها علماء الأنتربولوجيا، ونضرب لهم بمثال: العلماء أو الباحثون العرب منهم مثلاً: سيد محمود القمني وهو كاتب كان يكتب في مجلة الكويت فترة طويلة ثم ألف كتاباً بعنوان الأسطورة والتراث , نحن لا نقره على تفكيره العلماني أو اللاديني في هذا الكتاب, ومزجه الأحاديث الصحيحة بالضعيفة وبالموضوعة وبالرواية الكتابية المكذوبة، لكن الذي يمكن أن نستشفه أنه فعلاً قدر من الحقيقة هو أنه بطريقة الذكاء والمهارة استطاع أن يريك العلاقات الواضحة بين ما كانت تفعله الطقوس والأديان القديمة في كل مكان، إلى حد أنه في إحدى عباراته في الكتاب يقول: لعل التشابه بين هذه الاعتقادات الفارسية -يعني: اعتقاد المخلِّص الذي يأتي في آخر الزمان بطريقة معينة ذكرها أيضاً بلياد وغيره- وهذه العقيدة اللطم والضرب وما أشبهها يقول: التشابه بين هذه الاعتقادات الفارسية وبين ما جاء في اعتقادات الفرق الشيعية الإمامية أوضح من أن يشار إليه, وتقريباً الكتاب كله هو في هذا الموضوع، وممكن نحن أن نرجع إلى مصادره, مثلاً لو رجعنا إلى قاموس الآلهة والأساطير كما تسمى في بلاد الرافدين وفي سوريا القديمة، نجد أن هناك أيضاً قصة تؤكد ذلك، وهي في صفحة مائة وتسعة وتسعين: أن الحبيبة أو العشيقة عشتار -أو عشيقة البعل- شرعت لهم أن يخدشوا أنفسهم؛ لما وجدته ميتاً فخدشت وجهها وخمرت شعرها وأدمت جسدها وبدنها كله, وأخذت تصرخ وتعول, فأصبحت هذه عبادة عندهم، والبعض يقول: إن أصل هذه العبادة أن المصريين القدامى أو أيام الفراعنة أسبق من بابل, والبعض يقول: غير بذلك، هل هي من هؤلاء أو هؤلاء.
    المهم أن الهدف واحد والمدلول واحد, وبذلك نجد أنه مثلاً هذا الكتاب الآخر أيضاً عن قضية مصر القديمة نجد أن حورس الذي حصل له نفس الشيء بالقتل أو التشنيع, وأقيمت المناحة, وأصبحت الشعائر والمناحات لـحورس أو لـأوزريس في العقائد المصرية القديمة أيضاً من شعائر مناحات تضرب فيها الأبدان وتسيل فيها الدماء, وتقوم فيها هذه الطقوس التي حرمها الله تبارك وتعالى, والتي تدل فعلاً كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذه من أمر وشأن الجاهلية, فالجاهليات واحدة، نجدها في إيران القديمة، ونجدها في بابل وفي آشور ، ونجدها عند الفينيقيين مع بعل ، ونجدها عند المصريين مع حورس .
    ثم نفس الشعائر تنتقل إلى العالم الإسلامي مع الأسف الشديد، ويفعلها من يتنسبون للإسلام, وبعض الطوائف الإسلامية يفعلون ذلك، ولكن متى؟ كما بين مهدي شمس الدين أنها وقعت وحدثت في العصور المتأخرة.
  4. تقسيم العالم الشيعي علي شريعتي التشيع إلى نوعين

    حقيقة لو رجعنا إلى العصور المتأخرة نجد أن هناك رجلاً شيعياً إيرانياً عالماً باحثاً مشهوراً وهو علي شريعتي ؛ علي شريعتي ميز بين نوعين من التشيع -وقد ميز غيره لكن هو اشتهر بذلك- التشيع العربي، والتشيع القديم, وذكر شريعتي بالنص في الكتاب يقول: كان الأولون على عقيدة واحدة, وكان الخلاف سياسياً, يعني: في القرن الأول كان المسلمون جميعاً على عقيدة واحدة, وكان الخلاف سياسيا ًفي الخلافة، الحقيقة وجد هناك الشيعة الغلاة جداً؛ السبئية الذين حرقهم علي رضي الله تعالى عنه, وأنكر الصحابة عليه أن يحرقهم؛ لكن كلامه يقول: كانت العقيدة الدينية واحدة, وطبعاً هؤلاء زنادقة خارجون من كل الدين؛ لكن التشيع الصفوي هو الذي جاء بطقوس مجوسية قديمة، ليست من الإسلام في شيء على الإطلاق.
    فهو هنا يتفق مع ما قاله أيضاً مؤلف كتاب ثورة الحسين في الوجدان الشعبي ، بالفعل أنه في المرحلة الأخيرة فقط تكونت وتشكلت هذه الطقوس, والصفويون تشيعهم مخلوط بالتصوف، وهذه حقيقة, وهذا يؤكد أننا نحن ننكر البدع من أي مذهب جاءت، لكن كانت العقيدة الصوفية في أيام هؤلاء وغيرهم كانت تميل إلى الابتداع, كما قلنا بجانب الانتشاء والوجد والذوق حتى يغمى عليه من الطرب والوجد, كما ذكر الشاعر:
    يكنون عن رب السماء بزينب وليلى ولبنى والخيال الذي يسري
    فيتغزلون في ليلى ولبنى وسلمى والخيال والأطياف .. إلى آخره، ويكنون بها عن الله.
    لكن هنالك يقيمونها على الضد؛ وهو المآتم والحزن والألم والأسى الذي كان يفعل.
    فكأن علي شريعتي يضع النقاط على الحروف في هذه المسألة, ويقول: إن التوحيد هو الدين الذي يجب أن يكون عليه جميع المسلمين.. وذكر أن القباب والقبور والشعائر والطقوس كلها هذه البدع أنها ليست من الإسلام في شيء.
    طبعاً معروف مصير علي شريعتي فقد قتل بعد ذلك، واتهمت الثورة الخمينية بقتله -الله أعلم لا يهمنا- لكن المقصود أن هذا الاتجاه قائم, وأنه موجود حتى في داخل إيران، وفي داخل المدارس والأئمة الشيعية, سواء منهم أئمة الحوزة, أو العلماء أو الباحثون الآخرون, بالإضافة إلى ما ذكرنا وقررنا من أن علم التاريخ القديم وعلم الأديان القديمة وما يمكن أن نسميه الأنتربولوجيا الدينية الثقافية للشعوب القديمة تؤكد جميعاً أن هذه الشعائر ليست من الإسلام في شيء.